الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَتَرَى" يَا مُحَمَّدُ "كَثِيرًا"، مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَصَصْتُ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ"يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"، يَقُولُ: يُعَجِّلُونَ بِمُوَاقَعَةِ الْإِثْمِ. وَقِيلَ: إِنَّ "الْإِثْمَ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، مَعْنِيٌّ بِهِ الْكُفْرُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: " {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} "، قَالَ: "الإِثْمُ"، الْكُفْرُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} "، وَكَانَ هَذَا فِي حُكَّامِ الْيَهُودِ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} "، قَالَ: هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ" {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} " {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ}، إِلَى قَوْلِهِ: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}، قَالَ: "يَصْنَعُونَ" و"يَعْمَلُونَ" وَاحِدٌ. قَالَ: لِهَؤُلَاءِ حِينَ لَمْ يَنْهَوْا، كَمَا قَالَ لِهَؤُلَاءِ حِينَ عَمِلُوا. قَالَ: وَذَلِكَ الْإِدْهَانُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا غَيْرَ مَدْفُوعٍ جَوَازُ صِحَّتِهِ، فَإِنَّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْكَلَامِ: أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ مَوْصُوفِينَ بِأَنَّهُمْ يُسَارِعُونَ فِي جَمِيعِ مَعَاصِي اللَّهِ، لَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا، لَا مِنْ كُفْرٍ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَمَّ فِي وَصْفِهِمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخُصَّ بِذَلِكَ إِثْمًا دُونَ إِثْمٍ. وَأُمًّا "العُدْوَانُ"، فَإِنَّهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي كُلِّ مَا حَدَّهُ لَهُمْ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، يُسَارِعُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ وَخِلَافِ أَمْرِهِ، وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَهُ الَّتِي حَدَّ لَهُمْ فِيمَا أَحَلَّ لَهُمْ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ، فِي أَكْلِهِمُ "السُّحْتَ" وَذَلِكَ الرِّشْوَةُ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنَ النَّاسِ عَلَى الْحُكْمِ بِخِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ فِيهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، يَقُولُ: أَقْسَمَ لَبِئْسَ الْعَمَلُ مَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ يَعْمَلُونَ، فِي مُسَارَعَتِهِمْ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَلَّا يَنْهَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِ الرُّشَى فِي الْحُكْمِ، مِنَ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، رَبَّانِيُّوهُمْ وَهُمْ أَئِمَّتُهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَسَاسَتُهُمُ الْعُلَمَاءُ بِسِيَاسَتِهِمْ، وَأَحْبَارُهُمْ وَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ وَقُوَّادُهُمْ "عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ" يَعْنِي: عَنْ قَوْلِ الْكَذِبِ وَالزُّورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ، وَيَكْتُبُونَ كُتُبًا بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ: "هَذَا مِنْ حُكْمِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ كُتُبِهِ". يَقُولُ اللَّهُ: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 79]. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ"، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ الرِّشْوَةَ الَّتِي كَانُوا يَأْخُذُونَهَا عَلَى حُكْمِهِمْ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ لِمَنْ حَكَمُوا لَهُ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "الرَّبَّانِيِّينَ" وَ "الأَحْبَارِ" وَمَعْنَى "السُّحْتِ"، بِشَوَاهِدَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. " {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} "، وَهَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ أَقْسَمَ بِهِ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أُقْسِمُ: لَبِئْسَ الصَّنِيعُ كَانَ يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ، فِي تَرْكِهِمْ نَهْيَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ مِنْهُمْ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِ السُّحْتِ، عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ الْعُلَمَاء يَقُولُونَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةً أَشَدَّ تَوْبِيخًا لِلْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا أَخْوَفَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ فِي قَوْلِهِ: " {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ} " قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْهَا: أَنَّا لَا نَنْهَى. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ قَالَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ تَوْبِيخًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قَالَ: كَذَا قَرَأَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: " {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} " [قَالَ: "الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ"، فُقَهَاؤُهُمْ وَقُرَّاؤُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ. قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ الضَّحَّاكُ: وَمَا أَخْوَفُنِي مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ!]. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} "، يَعْنِي: الرَّبَّانِيِّينَ، أَنَّهُمْ: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ جُرْأَةِ الْيَهُودِ عَلَى رَبِّهِمْ، وَوَصْفِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا لَيْسَ مِنْ صِفَتِهِ، تَوْبِيخًا لَهُمْ بِذَلِكَ، وَتَعْرِيفًا مِنْهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِيمَ جَهْلِهِمْ وَاغْتِرَارِهِمْ بِهِ، وَإِنْكَارِهِمْ جَمِيعَ جَمِيلِ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ، وَكَثْرَةَ صَفْحِهِ عَنْهُمْ وَعَفْوَهُ عَنْ عَظِيمِ إِجْرَامِهِمْ وَاحْتِجَاجًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ وَرَسُولٌ مُرْسَلٌ: أَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَنْبَاءُ الَّتِي أَنْبَأَهُمْ بِهَا كَانَتْ مِنْ خَفِيِ عُلُومِهِمْ وَمَكْنُونِهَا الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا أَحْبَارُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَضْلًا عَنِ الْأُمَّةِ الْأُمِّيَّةِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمَّ يَقْرَأُوا كِتَابًا، ووَعَوْا مِنْ عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ عِلْمًا، فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيُقَرِّرَ عِنْدَهُمْ صِدْقَهُ، وَيَقْطَعَ بِذَلِكَ حُجَّتَهُمْ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ "، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ"يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ"، يَعْنُونَ: أَنَّ خَيْرَ اللَّهِ مُمْسَكٌ وَعَطَاؤُهُ مَحْبُوسٌ عَنِ الِاتِّسَاعِ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي تَأْدِيبِ نَبِيهٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 29]. وَإِنَّمَا وَصَفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ "اليَدَ" بِذَلِكَ، وَالْمَعْنَى الْعَطَاءُ، لِأَنَّ عَطَاءَ النَّاسِ وَبَذْلَ مَعْرُوفِهِمُ الْغَالِبَ بِأَيْدِيهِمْ. فَجَرَى اسْتِعْمَالُ النَّاسِ فِي وَصْفِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، إِذَا وَصَفُوهُ بِجُودٍ وَكَرَمٍ، أَوْ بِبُخْلٍ وَشُحٍّ وَضِيقٍ، بِإِضَافَةِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى يَدَيْهِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى فِي مَدْحِ رَجُلٍ: يَـدَاكَ يَـدَا مَجْـدٍ، فَكَـفٌ مُفِيـدَةٌ *** وَكَـفٌّ إِذَا مَـا ضُـنَّ بِـالزَّادِ تُنْفِـقُ فَأَضَافَ مَا كَانَ صِفَةَ صَاحِبِ الْيَدِ مِنْ إِنْفَاقٍ وَإِفَادَةٍ إِلَى "اليَدِ". وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي أَشْعَارِهَا وَأَمْثَالِهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى. فَخَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ وَيَتَحَاوَرُونَهُ بَيْنَهُمْ فِي كَلَامِهِمْ فَقَالَ: " {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} "، يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَبْخَلُ عَلَيْنَا، وَيَمْنَعُنَا فَضْلَهُ فَلَا يُفْضِلُ كَالْمَغْلُولَةِ يَدُهُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبْسُطَهَا بِعَطَاءٍ وَلَا بَذْلِ مَعْرُوفٍ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا قَالُوا، أَعْدَاءُ اللَّهِ! فَقَالَ اللَّهُ مُكَذِّبَهُمْ وَمُخْبِرَهُمْ بِسَخَطِهِ عَلَيْهِمْ: "غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ"، يَقُولُ: أُمْسِكَتْ أَيْدِيهِمْ عَنِ الْخَيْرَاتِ، وَقُبِضَتْ عَنِ الِانْبِسَاطِ بالْعَطِيَّاتِ"وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا"، وَأُبْعِدُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ بِالَّذِي قَالُوا مِنَ الْكُفْرِ، وَافْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ وَوَصَفُوهُ بِهِ مِنَ الْكَذِبِ وَالْإِفْكِ "بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ"، يَقُولُ: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ بِالْبَذْلِ وَالْإِعْطَاءِ وَأَرْزَاقِ عِبَادِهِ وَأَقْوَاتِ خَلْقِهِ، غَيْرُ مَغْلُولَتَيْنِ وَلَا مَقْبُوضَتَيْنِ "يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ"، يَقُولُ: يُعْطِي هَذَا، وَيَمْنَعُ هَذَا فَيَقْتُرُ عَلَيْهِ. وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} "، قَالَ: لَيْسَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ مُوثَقَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ بَخِيلٌ أَمْسَكَ مَا عِنْدَهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: "يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ"، قَالُوا: لَقَدْ تَجَهَّدَنَا اللَّهُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى جَعَلَ اللَّهُ يَدَهُ إِلَى نَحْرِهِ! وَكَذَبُوا ! حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ"، قَالَ: الْيَهُودُ تَقُولُهُ: لَقَدْ تَجَهَّدَنَا اللَّهُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ، حَتَّى إِنَّ يَدَهُ إِلَى نَحْرِهِ" {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ". حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} " إِلَى"وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"، أَمَّا قَوْلُهُ: "يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ"، قَالُوا: اللَّهُ بَخِيلٌ غَيْرُ جَوَّادٍ! قَالَ اللَّهُ: " {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} "، قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ وَضْعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَلَا يَبْسُطُهَا حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْنَا مُلْكَنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ"، يَقُولُ: يَرْزُقُ كَيْفَ يَشَاءُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ عِكْرِمَةُ: " {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} " الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي فِنْحَاصَ الْيَهُودِيِّ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو تَمِيلَةَ، عَنْ عَبِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَوْلُهُ: " {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} "، يَقُولُونَ: إِنَّهُ بِخَيْلٍ لَيْسَ بِجَوَّادٍ! قَالَ اللَّهُ: " {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} "، أُمْسِكَتْ أَيْدِيهِمْ عَنِ النَّفَقَةِ وَالْخَيْرِ. ثُمَّ قَالَ يَعْنِي نَفْسَهُ: " {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ". وَقَالَ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 29]، يَقُولُ: لَا تُمْسِكُ يَدَكَ عَنِ النَّفَقَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْجَدَلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: " {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ: نِعْمَتَاهُ. وَقَالَ: ذَلِكَ بِمَعْنَى: "يَدُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ"، وَذَلِكَ نِعَمُهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: "لَكَ عِنْدِي يَدٌ"، يَعْنُونَ بِذَلِكَ: نِعْمَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ الْقُوَّةَ. وَقَالُوا: ذَلِكَ نَظِيرَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي} [سُورَةُ ص: 45]. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ"يَدُهُ"، مِلْكُهُ. وَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: " {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} "، مِلْكُهُ وَخَزَائِنُهُ. قَالُوا: وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ لِلْمَمْلُوكِ: "هُوَ مِلْكُ يَمِينِهِ"، وَ"فَلَانٌ بِيَدِهِ عُقْدَةُ نِكَاحِ فُلَانَةَ"، أَيْ يَمْلِكُ ذَلِكَ، وَكَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}، [سُورَةُ الْمُجَادِلَةِ: 12]. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ"يَدُ اللَّهِ" صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، هِيَ يَدٌ، غَيْرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِجَارِحَةٍ كَجَوَارِحِ بَنِي آدَمَ. قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ خُصُوصِهِ آدَمَ بِمَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ إِيَّاهُ بِيَدِهِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ [مَعْنَى "اليَدِ"، النِّعْمَةُ، أَوِ الْقُوَّةُ، أَوِ الْمِلْكُ، مَا كَانَ لِخُصُوصِهِ] آدَمَ بِذَلِكَ وَجْهُ مَفْهُومٍ، إِذْ كَانَ جَمِيعُ خَلْقِهِ مَخْلُوقِينَ بِقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتُهُ فِي خَلْقِهِ نِعْمَةٌ، وَهُوَ لِجَمِيعِهِمْ مَالِكٌ. قَالُوا: وَإِذْ كَانَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ خَصَّ آدَمَ بِذِكْرِهِ خَلْقَهُ إِيَّاهُ بِيَدِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّهُ بِذَلِكَ لِمَعْنًى بِهِ فَارَقَ غَيْرَهُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، بَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى "اليَدِ" مِنَ اللَّهِ، الْقُوَّةُ وَالنِّعْمَةُ أَوِ الْمِلْكُ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالُوا: وَأَحْرَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الزَّاعِمُونَ أَنَّ: "يَدَ اللَّهِ" فِي قَوْلِهِ: " {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} "، هِيَ نِعْمَتُهُ، لَقِيلَ: "بَلْ يَدُهُ مَبْسُوطَةٌ"، وَلَمْ يَقِلْ: "بَلْ يَدَاهُ"، لِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً. وَبِذَلِكَ جَاءَ التَّنْزِيلُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 34\ وَسُورَةُ النَّحْلِ: 18] قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ نِعْمَتَيْنِ، كَانَتَا مَحْصَاتَيْنِ. قَالُوا: فَإِنْ ظَنٌّ ظَانٌّ أَنَّ النِّعْمَتَيْنِ بِمَعْنَى النِّعَمَ الْكَثِيرَةَ، فَذَلِكَ مِنْهُ خَطَأٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُخْرِجُ الْجَمِيعَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِأَدَاءِ الْوَاحِدِ عَنْ جَمِيعِ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [سُورَةُ الْعَصْرِ: 1، 2] وَكَقَوْلِهِ {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ}، [سُورَةُ الْحِجْرِ: 26] وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [سُورَةُ الْفُرْقَانِ: 55]، قَالَ: فَلَمْ يُرَدْ بِـ "الإِنْسَانِ" وَ "الكَافِرِ" فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ إِنْسَانٌ بِعَيْنِهِ، وَلَا كَافِرٌ مُشَارٌ إِلَيْهِ حَاضِرٌ، بَلْ عُنِيَ بِهِ جَمِيعُ الْإِنْسِ وَجَمِيعُ الْكُفَّارِ، وَلَكِنَّ الْوَاحِدَ أَدَّى عَنْ جِنْسِهِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: "مَا أَكْثَرَ الدِّرْهَمَ فِي أَيْدِي النَّاسِ"، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَكَانَ الْكَافِرُ) مَعْنَاهُ: وَكَانَ الَّذِينَ كَفَرُوا. قَالُوا: فَأَمَّا إِذَا ثُنِّيَ الِاسْمُ، فَلَا يُؤَدِّي عَنِ الْجِنْسِ، وَلَا يُؤَدِّي إِلَّا عَنِ اثْنَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا دُونَ الْجَمِيعِ وَدُونَ غَيْرِهِمَا. قَالُوا: وَخَطَأٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ: "مَا أَكْثَرَ الدِّرْهَمَيْنِ فِي أَيْدِي النَّاسِ"، بِمَعْنَى: مَا أَكْثَرَ الدَّرَاهِمَ فِي أَيْدِيهِمْ. قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ الدِّرْهَمَ إِذَا ثُنِّيَ لَا يُؤَدِّي فِي كَلَامِهَا إِلَّا عَنِ اثْنَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا. قَالُوا: وَغَيْرُ مُحَالٍ: "مَا أَكْثَرَ الدِّرْهَمَ فِي أَيْدِي النَّاسِ"، و"مَا أَكْثَرَ الدَّرَاهِمَ فِي أَيْدِيهِمْ"، لِأَنَّ الْوَاحِدَ يُؤَدِّي عَنِ الْجَمِيعِ. قَالُوا: فَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: " {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} "، مَعَ إِعْلَامِهِ عِبَادَهُ أَنَّ نِعَمَهُ لَا تُحْصَى، مَعَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ اثْنَيْنِ يُؤَدِّيَانِ عَنِ الْجَمِيعِ مَا يُنْبِئُ عَنْ خَطَأِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَعْنَى "اليَدِ"، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، النِّعْمَةُ، وَصِحَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ"يَدَ اللَّهِ"، هِيَ لَهُ صِفَةٌ. قَالُوا: وَبِذَلِكَ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بِهِ الْعُلَمَاءُ وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَطْلَعْنَاكَ عَلَيْهِ مِنْ خَفِيِّ أُمُورِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ، مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عُلَمَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمُ، احْتِجَاجًا عَلَيْهِمْ لِصِحَّةِ نَبُّوَّتِكَ، وَقَطْعًا لِعُذْرِ قَائِلٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ: " {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} ": " {لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} ". يَعْنِي بِـ "الطُّغْيَانِ": الْغُلُوُّ فِي إِنْكَارِ مَا قَدْ عَلِمُوا صِحَّتَهُ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّمَادِي فِي ذَلِكَ"وَكُفْرًا"، يَقُولُ: وَيَزِيدُهُمْ مَعَ غُلُوِّهِمْ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ، جُحُودَهُمْ عَظَمَةَ اللَّهِ وَوَصْفَهُمْ إِيَّاهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ، بِأَنْ يَنْسُبُوهُ إِلَى الْبُخْلِ، وَيَقُولُوا: "يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ". وَإِنَّمَا أَعْلَمَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ أَهْلُ عُتُوٍّ وَتَمَرُّدٍ عَلَى رَبِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُذْعِنُونَ لِحَقٍّ وَإِنْ عَلِمُوا صِحَّتَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَهُ، يُسَلِّي بِذَلِكَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُوجِدَةِ بِهِمْ فِي ذَهَابِهِمْ عَنِ اللَّهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى "الطُّغْيَانِ" فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} "، حَمَلَهُمْ حَسَدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَرَبِ عَلَى أَنْ كَفَرُوا بِهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: " {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} "، بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} "، الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: " {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} "، جَعَلْتَ "الْهَاءَ وَالْمِيمَ" فِي قَوْلِهِ: "بَيْنَهُمْ"، كِنَايَةً عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَمْ يَجْرِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ذِكْرٌ؟ قِيلَ: قَدْ جَرَى لَهُمْ ذِكْرٌ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 51]، جَرَى الْخَبَرُ فِي بَعْضِ الْآيِ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ، وَفِي بَعْضٍ عَنْ أَحَدِهِمَا، إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: " {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} "، ثُمَّ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: "أَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ"، الْخَبَرَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كُلَّمَا جُمِعَ أَمْرُهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَاسْتَقَامَ وَاسْتَوَى، فَأَرَادُوا مُنَاهَضَةَ مَنْ نَاوَأَهُمْ، شَتَّتَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَفْسَدَهُ لِسُوءِ فِعَالِهِمْ وَخُبْثِ نِيَّاتِهِمْ، كَالَّذِي:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 6]، قَالَ: كَانَ الْفَسَادُ الْأَوَّلُ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا فَاسْتَبَاحُوا الدِّيَارَ، وَاسْتَنْكَحُوا النِّسَاءَ، وَاسْتَعْبَدُوا الْوِلْدَانَ، وَخَرَّبُوا الْمَسْجِدَ. فَغُبِرُوا زَمَانًا، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ نَبِيًّا وَعَادَ أَمْرُهُمْ إِلَى أَحْسَنَ مَا كَانَ. ثُمَّ كَانَ الْفَسَادُ الثَّانِي بِقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، حَتَّى قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَبَعْثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتَ نَصَّرَ، فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَسَبَى مَنْ سَبَى، وَخَرَّبَ الْمَسْجِدَ. فَكَانَ بَخَّتَ نَصَّرُ الْفَسَادَ الثَّانِيَ قَالَ: و"الْفَسَادُ"، الْمَعْصِيَةُ ثُمَّ قَالَ، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 7، 8] فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُمْ عُزَيْرًا، وَقَدْ كَانَ عَلِمَ التَّوْرَاةَ وَحَفِظَهَا فِي صَدْرِهِ وَكَتَبَهَا لَهُمْ. فَقَامَ بِهَا ذَلِكَ الْقَرْنَ، وَلَبِثُوا فَنَسُوا. وَمَاتَ عُزَيْرٌ، وَكَانَتْ أَحْدَاثٌ، وَنَسُوا الْعَهْدَ وبَخَّلُوا رَبَّهُمْ، وَقَالُوا: " {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} "، وَقَالُوا فِي عُزَيْرٍ: "إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ وَلَدًا"، وَكَانُوا يَعِيبُونَ ذَلِكَ عَلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ، فَخَالَفُوا مَا نَهَوْا عَنْهُ، وَعَمِلُوا بِمَا كَانُوا يُكَفِّرُونَ عَلَيْهِ، فَسَبَقَ مِنَ اللَّهِ كَلِمَةٌ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَنْ يَظْهَرُوا عَلَى عَدُوٍّ آخَرَ الدَّهْرَ، فَقَالَ: " {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} "، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمَجُوسَ الثَّالِثَةَ أَرْبَابًا، فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ وَالْمَجُوسُ عَلَى رِقَابِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: "يَا لَيْتَنَا أَدْرَكْنَا هَذَا النَّبِيَّ الَّذِي نَجِدُهُ مَكْتُوبًا عِنْدَنَا، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَفُكَّنَا بِهِ مِنَ الْمَجُوسِ وَالْعَذَابِ الْهُونِ"! فَبَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْمُهُ" مُحَمَّدٌ "، وَاسْمُهُ فِي الْإِنْجِيلِ" أَحْمَدُ " فَلَمَّا جَاءَهُمْ وَعَرَفُوا، كَفَرُوا بِهِ، قَالَ: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 89]، وَقَالَ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}، بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ: 90]. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} "، هُمُ الْيَهُودُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} "، أُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، فَلَنْ تُلْقَى الْيَهُودُ بِبَلَدٍ إِلَّا وَجَدْتَهُمْ مِنْ أَذَلِّ أَهْلِهِ. لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ حِينَ جَاءَ، وَهُمْ تَحْتَ أَيْدِي الْمَجُوسِ أَبْغَضَ خَلْقِهِ إِلَيْهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: " {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} "، قَالَ: كُلَّمَا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَرَّقَهُ اللَّهُ، وَأَطْفَأَ حَدَّهُمْ وَنَارَهُمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ بِمَا:- حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: " {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} "، قَالَ: حَرْبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَعْمَلُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَيَكْفُرُونَ بِآيَاتِهِ وَيُكَذَّبُونَ رُسُلَهُ، وَيُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَذَلِكَ سَعْيُهُمْ فِيهَا بِالْفَسَادِ " {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} "، يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ عَامِلًا بِمَعَاصِيهِ فِي أَرْضِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ"، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى "آمَنُوا" بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَدَّقُوهُ وَاتَّبَعُوهُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ"وَاتَّقَوْا" مَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ فَاجْتَنَبُوهُ"لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ"، يَقُولُ: مَحَوْنَا عَنْهُمْ ذُنُوبَهُمْ فَغَطَّيْنَا عَلَيْهَا، وَلَمْ نَفْضَحْهُمْ بِهَا "وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ"، يَقُولُ: وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ بَسَاتِينَ يَنْعَمُونَ فِيهَا فِي الْآخِرَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} "، يَقُولُ: آمَنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَاتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، "لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: " {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} "، وَلَوْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ "وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ"، يَقُولُ: وَعَمِلُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ مِنَ الْفُرْقَانِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يُقِيمُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْكُتُبِ، وَنَسْخِ بَعْضِهَا بَعْضًا؟ قِيلَ: إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهَا وَشَرَائِعِهَا، فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِرُسُلِ اللَّهِ، وَالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَمَعْنَى إِقَامَتُهُمُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصْدِيقُهُمْ بِمَا فِيهَا، وَالْعَمَلُ بِمَا هِيَ مُتَّفِقَةٌ فِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْحِينِ الَّذِي فَرَضَ الْعَمَلَ بِهِ. وَأُمًّا مَعْنَى قَوْلِهِ: " {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} "، فَإِنَّهُ يَعْنِي: لَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَهَا، فَأَنْبَتَتْ لَهُمْ بِهِ الْأَرْضُ حُبَّهَا وَنَبَاتهَا، فَأَخْرَجَ ثِمَارَهَا. وَأُمًّا قَوْلُهُ: " {وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} "، فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَأَكَلُوا مِنْ بَرَكَةِ مَا تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِنْ حَبِّها وَنَبَاتِهَا وَثِمَارِهَا، وَسَائِرِ مَا يُؤْكَلُ مِمَّا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} "، يَعْنِي: لَأَرْسَلَ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا"وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ"، تُخْرِجُ الْأَرْضُ بَرَكَتَهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} "، يَقُولُ: إذًا لَأَعْطَتْهُمُ السَّمَاءُ بَرَكَتَهَا وَالْأَرْضُ نَبَاتهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} "، يَقُولُ: لَوْ عَمِلُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، فَلَأُنْبِتَ الثَّمَرُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} "، أَمَّا"إِقَامَتُهُمُ التَّوْرَاةَ"، فَالْعَمَلُ بِهَا وَأَمَّا"مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ"، فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ. يَقُولُ: " {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} "، أَمَّا"مِنْ فَوْقِهِمْ"، فَأَرْسَلْتُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا، وَأَمَّا"مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ"، يَقُولُ: لَأَنْبَتُّ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ رِزْقِي مَا يُغْنِيهِمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: " {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} "، قَالَ: بَرَكَاتُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: "لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ"، الْمَطَرُ "وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ"، مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} "، يَقُولُ: لَأَكَلُوا مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ"وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ"، يَقُولُ: مِنَ الْأَرْضِ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ إِنَّمَا أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: " {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} "، التَّوْسِعَةَ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: "هُوَ فِي خَيْرٍ مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ". وَتَأْوِيلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَهِيدًا عَلَى فَسَادِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: "مِنْهُمْ أُمَّةٌ"، مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ "مُقْتَصِدَةٌ"، يَقُولُ: مُقْتَصِدَةٌ فِي الْقَوْلِ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، قَائِلَةٌ فِيهِ الْحَقَّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، لَا غَالِيَةٌ قَائِلَةٌ: إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا مُقَصِّرَةَ قَائِلَةٌ: هُوَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ"وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ"، يَعْنِي: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى "سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ"، يَقُولُ: كَثِيرٌ مِنْهُمْ سَيِّئٌ عَمَلُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، فَتُكَذِّبُ النَّصَارَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَزْعُمُ أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ وَتُكَذِّبُ الْيَهُودُ بِعِيسَى وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ ذَامًّا لَهُمْ: "سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ"، فِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ"، وَهُمْ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ"وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرَقًا، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: " عِيسَى هُوَ ابْنُ اللَّهِ"، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: "هُوَ اللَّهُ "، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: "هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرُوحُهُ"، وَهِيَ الْمُقْتَصِدَةُ، وَهِيَ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ اللَّهُ: " {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} "، يَقُولُ: عَلَى كِتَابِهِ وَأَمْرِهِ. ثُمَّ ذَمَّ أَكْثَرَ الْقَوْمِ فَقَالَ: "وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ"، يَقُولُ: مُؤْمِنَةٌ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} " قَالَ: الْمُقْتَصِدَةُ، أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْكِتَابِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: " {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} "، قَالَ: فَهَذِهِ الْأُمَّةُ الْمُقْتَصِدَةُ، الَّذِينَ لَا هُمْ جَفَوْا فِي الدِّينِ وَلَا هُمْ غَلَوْا. قَالَ: و"الْغُلُوُّ"، الرَّغْبَةُ [عَنْهُ]، و"الْفِسْقُ"، التَّقْصِيرُ عَنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِإِبْلَاغِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الَّذِينَ قَصَّ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَصَصَهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَكَرَ فِيهَا مَعَايِبَهُمْ وَخُبْثَ أَدْيَانِهِمْ، وَاجْتِرَاءَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ، وَتَوَثُّبَهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَتَبْدِيلَهُمْ كِتَابَهُ، وَتَحْرِيفَهُمْ إِيَّاهُ، وَرَدَاءَةَ مَطَاعِمِهِمْ وَمَآكِلِهِمْ، وَسَائِرَ الْمُشْرِكِينَ غَيْرَهُمْ، مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِمْ مِنْ مَعَايِبِهِمْ، وَالْإِزْرَاءَ عَلَيْهِمْ، وَالتَّقْصِيرَ بِهِمْ، وَالتَّهْجِينَ لَهُمْ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَأَنْ لَا يُشْعِرُ نَفْسَهُ حَذَرًا مِنْهُمْ أَنْ يُصِيبُوهُ فِي نَفْسِهِ بِمَكْرُوهٍ مَا قَامَ فِيهِمْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلَا جَزَعًا مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِ مَنْ مَعَهُ، وَأَنْ لَا يَتَّقِي أَحَدًا فِي ذَاتِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ كَافِيهِ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَدَافِعٌ عَنْهُ مَكْرُوهَ كُلِّ مَنْ يَبْغِي مَكْرُوهَهُ. وَأَعْلَمَهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ إِنْ قَصَّرَ عَنْ إِبْلَاغِ شَيْءٍ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْهِ إِلَيْهِمْ، فَهُوَ فِي تَرْكِهِ تَبْلِيغَ ذَلِكَ وَإِنْ قَلَّ مَا لَمْ يُبَلِّغْ مِنْهُ فَهُوَ فِي عَظِيمِ مَا رَكِبَ بِذَلِكَ مِنَ الذَّنْبِ بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ لَمْ يُبَلِّغْ مِنْ تَنْزِيلِهِ شَيْئًا. وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} "، يَعْنِي: إِنْ كَتَمَتْ آيَةً مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَاتِي. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} "، الْآيَةَ، أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَيَكْفِيهِ النَّاسَ، وَيَعْصِمُهُ مِنْهُمْ، وَأَمَرَهُ بِالْبَلَاغِ. ذُكِرَ لَنَا «أَنَّ نَبِيَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: لَوِ احْتَجَبْتَ! فَقَالَ: وَاللَّهِ لِأُبْدِيَنَّ عَقِبِي لِلنَّاسِ مَا صَاحَبْتُهُم». حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: " {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} "، قَالَ: إِنَّمَا أَنَا وَاحِدٌ، كَيْفَ أَصْنَعُ؟ تَجَمَّعَ عَلَيَّ النَّاسُ! فَنَزَلَتْ: " {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} "، الْآيَةَ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} "، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَحْرُسُونِي، إِنَّ رَبِّي قَدْ عَصَمَنِي». حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَقِبُهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: " {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} "، خَرَجَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، الْحَقُوا بِمَلَاحِقِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ النَّاس». حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَارَسُهُ أَصْحَابُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} "، إِلَى آخِرِهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدَةَ أَبُو قُدَامَةَ الْإِيَادِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَة قالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ"، قَالَتْ: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، انْصَرَفُوا، فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّه». حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحُمَيْدِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْقُرَظِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ يُحْرَسُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: " {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ".» وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ أَعْرَابِيٍّ كَانَ هَمَّ بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَفَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَغَيْرِهِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا اخْتَارَ لَهُ أَصْحَابُهُ شَجَرَةً ظَلِيلَةً، فَيَقِيلُ تَحْتَهَا. فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ ثُمَّ قَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: اللَّهُ ! فَرُعِدَتْ يَدُ الْأَعْرَابِيِّ وَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْهُ، قَالَ: وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى انْتَثَرَ دِمَاغُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ".» وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ لِأَنَّهُ كَانَ يَخَافُ قُرَيْشًا، فَأُومِنَ مِنْ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهَابُ قُرَيْشًا، فِلْمًا نَزَلَتْ: " {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} "، اسْتَلْقَى ثُمَّ قَالَ: "مَنْ شَاءَ فَلْيَخْذُلْنِي مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا». حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ، قَالَتْ عَائِشَة: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ كَذَبَ! ثُمَّ قَرَأَتْ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} "، الْآيَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ، قَالَتْ عَائِشَة: مَنْ قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ، فَقَدْ كَذَبَ وَأَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} " الْآيَةَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ، قَالَتْ عَائِشَة: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ! وَاللَّهُ يَقُولُ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} "، الْآيَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ، حَدَّثَنِي خَالِدٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَة يوْمًا فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ: لَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ مَنْ قَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ! وَاللَّهُ يَقُولُ: " {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ". وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: " {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} "، يَمْنَعُكَ مِنْ أَنْ يَنَالُوكَ بِسُوءٍ. وَأَصْلُهُ مِنْ "عِصَامِ الْقِرْبَةِ"، وَهُوَ مَا تُوكَى بِهِ مِنْ سَيْرٍ وَخَيْطٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَقُلْـتُ: عَلَيْكُـمْ مَالِكًـا، إِنَّ مَالِكًـا *** سَـيَعْصِمُكُمُ، إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ عَاصِمُ يَعْنِي: يَمْنَعُكُمْ. وَأُمًّا قَوْلُهُ: " {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} "، فَإِنَّهُ يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ لَا يُوَفِّقُ لِلرُّشْدِ مَنْ حَادَ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ، وَجَارَ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَجَحَدَ مَا جِئْتَهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْتَهِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا فَرَضَ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبْلَاغِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مُهَاجَرِهِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُ: "قُلْ"، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ"، التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ "لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ"، مِمَّا تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ عَلَيْهِ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَلَا مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ عِيسَى، مَعْشَرَ النَّصَارَى "حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ"، مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفُرْقَانِ، فَتَعْمَلُوا بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَتُؤْمِنُوا بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِهِ، وَتُقِرُّوا بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَا تُكَذِّبُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا تُفَرِّقُوا بَيْنَ رُسُلِ اللَّهِ فَتُؤْمِنُوا بِبَعْضٍ وَتَكْفُرُوا بِبَعْضٍ، فَإِنَّ الْكُفْرَ بِوَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ كُفْرٌ بِجَمِيعِهِ، لِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَمَنْ كَذَّبَ بِبَعْضِهَا فَقَدْ كَذَّبَ بِجَمِيعِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ جَاءَ الْأَثَرُ. حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَافِعُ بْنُ حَارِثَةَ وَسَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ، وَتُؤْمِنُ بِمَا عِنْدَنَا مِنَ التَّوْرَاةِ، وَتَشْهَدُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ حَقٌّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلَى، وَلَكِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ وَجَحَدْتُمْ مَا فِيهَا مِمَّا أُخِذَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيثَاقِ، وَكَتَمْتُمْ مِنْهَا مَا أُمِرْتُمْ أَنْ تُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ أَحْدَاثِكُمْ! قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُ بِمَا فِي أَيْدِينَا، فَإِنَّا عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ، وَلَا نَتْبَعُكَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} " إِلَى: "فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ".» حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " قُلْ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} "، قَالَ: فَقَدْ صِرْنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ "التَّوْرَاةُ"، لِلْيَهُودِ، و"الْإِنْجِيلُ"، لِلنَّصَارَى، "وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ"، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا أَيْ: "لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا"، حَتَّى تَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَر: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: " {وَلَيَزِيدَنَّ كثيًرا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} "، وَأُقْسِمُ: لَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَصَّ قِصَصَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، الْكِتَابُ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ "طُغْيَانًا"، يَقُولُ: تَجَاوُزًا وَغُلُوًّا فِي التَّكْذِيبِ لَكَ، عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ لَكَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرْقَانِ"وَكُفْرًا" يَقُولُ: وَجُحُودًا لِنُبُوَّتِكَ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْ مَعْنَى "الطُّغْيَانِ"، فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ"، يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "فَلَا تَأْسَ "، فَلَا تَحْزَنْ. يُقَالُ: "أَسِيَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا"، إِذَا حَزِنَ"يَأْسَى أَسًى"،، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الْأَسَى يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ: لَا تَحْزَنُ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى تَكْذِيبِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكَ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَادَةً وَخُلِقَ فِي أَنْبِيَائِهِمْ، فَكَيْفَ فِيكَ؟ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَلَيَزِيدَنَّ كثيًرا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} "، قَالَ: الْفَرْقَانُ، يَقُولُ: فَلَا تَحْزَنْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: " {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} "، قَالَ: لَا تَحْزَنْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ"وَالَّذِينَ هَادَوْا"، وَهُمْ الْيَهُودُ وَالصَّابِئُونَ"، وَقَدْ بَيَّنَّا أَمْرَهُمْ " وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"، فَصَدَّقَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ"وَعَمِلَ"، مِنَ الْعَمَلِ"صَالِحًا" لِمَعَادِهِ"فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ"، فِيمَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ"وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"، عَلَى مَا خَلَّفُوا وَرَاءَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَعَيْشِهَا، بَعْدَ مُعَايَنَتِهِمْ مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْإِعْرَابِ فِيهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أُقْسِمُ: لَقَدْ أَخَذْنَامِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَعَلَى الْإِخْلَاصِ فِي تَوْحِيدِنَا، وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَيْنَاهُمْ عَنْهُ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ رُسُلًا وَوَعَدْنَاهُمْ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِنَا إِلَيْهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِنَا الْجَزِيلَ مِنَ الثَّوَابِ، وَأَوْعَدْنَاهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَعْصِيَتِنَا الشَّدِيدَ مِنَ الْعِقَابِ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ لَنَا بِمَا لَا تَشْتَهِيهِ نُفُوسُهُمْ وَلَا يُوَافِقُ مَحَبَّتَهُمْ، كَذَّبُوا مِنْهُمْ فَرِيقًا، وَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ فَرِيقًا، نَقْضًا لِمِيثَاقِنَا الَّذِي أَخَذْنَاهُ عَلَيْهِمْ، وَجُرْأَةً عَلَيْنَا وَعَلَى خِلَافِ أَمْرِنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى: وَظَنَّ هَؤُلَاءِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ الَّذِينَ وَصَفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ صِفَتَهُمْ: أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ: وَأَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا وَأَنَّهُمْ كَانُوا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ كَذَّبُوا فَرِيقًا وَقَتَلُوا فَرِيقًا أَنْ لَا يَكُونُ مِنَ اللَّهِ لَهُمُ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ بِالشَّدَائِدِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ "فَعَمُوا وَصَمُّوا"، يَقُولُ: فَعَمُوا عَنِ الْحَقِّ وَالْوَفَاءِ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذْتُهُ عَلَيْهِمْ، مِنْ إِخْلَاصِ عِبَادَتِي، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِي وَنَهْيِي، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِي، بِحُسْبَانِهِمْ ذَلِكَ وَظَنِّهِمْ "وَصَمُّوا" عَنْهُ ثُمَّ تُبْتُ عَلَيْهِمْ. يَقُولُ: ثُمَّ هَدَيْتُهُمْ بِلُطْفٍ مِنِّي لَهُمْ حَتَّى أَنَابُوا وَرَجَعُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيَّ وَخِلَافِ أَمْرِي وَالْعَمَلِ بِمَا أُكْرَهُهُ مِنْهُمْ، إِلَى الْعَمَلِ بِمَا أَحَبَّهُ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى طَاعَتِي وَأَمْرِي وَنَهْيِي " {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} "، يَقُولُ: ثُمَّ عَمُوا أَيْضًا عَنِ الْحَقِّ وَالْوَفَاءِ بِمِيثَاقِي الَّذِي أَخَذْتُهُ عَلَيْهِمْ: مِنَ الْعَمَلِ بِطَاعَتِي، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِي، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيَّ "وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ"، يَقُولُ: عَمِيَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كُنْتُ أَخَذْتُ مِيثَاقَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِاتِّبَاعِ رُسُلِي وَالْعَمَلِ بِمَا أَنْزَلْتُ إِلَيْهِمْ مِنْ كُتُبِي عَنِ الْحَقِّ وَصَمُّوا، بَعْدَ تَوْبَتِي عَلَيْهِمْ، وَاسْتِنْقَاذِي إِيَّاهُمْ مِنَ الْهَلَكَةِ "وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ"، يَقُولُ"بَصِيرٌ"، فَيَرَى أَعْمَالَهُمْ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا، فَيُجَازِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِجَمِيعِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرًّا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَحَسِبُوا أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} "، الْآيَةَ، يَقُولُ: حَسِبَ الْقَوْمُ أَنْ لَا يَكُونَ بَلَاءٌ "فَعَمُوا وَصَمُّوا"، كُلَّمَا عَرَضَ بَلَاءٌ ابْتُلُوا بِهِ، هَلَكُوا فِيهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَحَسِبُوا أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا} "، يَقُولُ: حَسِبُوا أَنْ لَا يُبْتَلَوْا، فَعَمُوا عَنِ الْحَقِّ وصَمُّوا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ: " {وَحَسِبُوا أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} "، قَالَ: بَلَاءٌ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَحَسِبُوا أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} "، قَالَ: الشِّرْكُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَحَسِبُوا أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا} "، قَالَ: الْيَهُودُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {فَعَمُوا وَصَمُّوا} "، قَالَ: يَهُودُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ: وَ "الفِتْنَةُ"، الْبَلَاءُ وَالتَّمْحِيصُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ بَعْضِ مَا فَتَنَ بِهِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكَانَ مِمَّا ابْتَلَيْتُهُمْ وَاخْتَبَرْتُهُمْ بِهِ، فَنَقَضُوا فِيهِ مِيثَاقِي، وَغَيَّرُوا عَهْدِي الَّذِي كُنْتُ أَخَذْتُهُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَا يَعْبُدُوا سِوَايَ، وَلَا يَتَّخِذُوا رَبًّا غَيْرِي، وَأَنْ يُوَحِّدُونِي، وَيَنْتَهُوا إِلَى طَاعَتِي ـ، عَبْدِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَإِنِّي خَلَقْتُهُ، وَأَجْرَيْتُ عَلَى يَدِهِ نَحْوَ الَّذِي أَجْرَيْتُ عَلَى يَدِ كَثِيرٍ مِنْ رُسُلِي، فَقَالُوا كُفْرًا مِنْهُمْ: "هُوَ اللَّهُ ". وَهَذَا قَوْلُ الْيَعْقُوبِيَّةِ مِنَ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا اخْتَبَرْتُهُمْ وَابْتَلَيْتُهُمْ بِمَا ابْتَلَيْتُهُمْ بِهِ، أَشْرَكُوا بِي، وَقَالُوا لِخَلْقٍ مِنْ خَلْقِي، وَعَبْدٍ مِثْلِهِمْ مِنْ عَبِيدِي، وَبَشَرٍ نَحْوَهُمْ مَعْرُوفٍ نَسَبُهُ وَأَصْلُهُ، مَوْلُودٍ مِنَ الْبَشَرِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِي، وَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَتِي وَطَاعَتِي، وَيُقِرُّ لَهُمْ بِأَنِّي رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي شَيْئًا: "هُوَ إِلَهُهُمْ"، جَهْلًا مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَكُفْرًا بِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا وَلَا مَوْلُودًا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: " {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} "، يَقُولُ: اجْعَلُوا الْعِبَادَةَ وَالتَّذَلُّلَ لِلَّذِي لَهُ يَذِلُّ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَهُ يَخْضَعُ كُلُّ مَوْجُودٍ "رَبِّي وَرَبَّكُمْ"، يَقُولُ: مَالِكِي وَمَالِكُكُمْ، وَسَيِّدِي وَسَيِّدُكُمْ، الَّذِي خَلَقَنِي وَإِيَّاكُمْ "إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"، أَنْ يَسْكُنَهَا فِي الْآخِرَةِ"وَمَأْوَاهُ النَّارُ"، يَقُولُ: وَمَرْجِعُهُ وَمَكَانُهُ- الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ وَيَصِيرُ فِي مَعَادِهِ، مَنْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِ- نَارُ جَهَنَّمَ "وَمَا لِلظَّالِمِينَ"، يَقُولُ: وَلَيْسَ لِمَنْ فَعَلَ غَيْرَ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ، وَعَبَدَ غَيْرَ الَّذِي لَهُ عِبَادَةُ الْخَلْقِ "مِنْ أَنْصَارٍ"، يَنْصُرُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ اللَّهِ، فَيُنْقِذُونَهُ مِنْهُ إِذَا أَوْرَدَهُ جَهَنَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَيْضًا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ فَرِيقٍ آخَرَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي الْآيَاتِ قَبْلُ: أَنَّهُ لَمَّا ابْتَلَاهُمْ بَعْدَ حُسْبَانِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُبْتَلُونَ وَلَا يُفْتَنُونَ، قَالُوا كُفْرًا بِرَبِّهِمْ وَشِرْكًا: "اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ". وَهَذَا قَوْلٌ كَانَ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ النَّصَارَى قَبْلَ افْتِرَاقِ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ والنَّسْطُورِيَّةِ. كَانُوا فِيمَا بَلَغَنَا يَقُولُونَ: "الإِلَهُ الْقَدِيمُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ يَعُمُّ ثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ: أَبًا وَالِدًا غَيْرَ مَوْلُودٍ، وَابْنًا مَوْلُودًا غَيْرَ وَالِدٍ، وَزَوْجًا مُتَتَبَّعَةً بَيْنَهُمَا". يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُكَذِّبًا لَهُمْ فِيمَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ: "وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ"، يَقُولُ: مَا لَكُمْ مَعْبُودٌ، أَيُّهَا النَّاسُ، إِلَّا مَعْبُودٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ بِوَالِدٍ لِشَيْءٍ وَلَا مَوْلُودٍ، بَلْ هُوَ خَالِقُ كُلِّ وَالِدٍ وَمَوْلُودٍ"وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ"، يَقُولُ: إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَمَّا يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ: "اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ" "لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، يَقُولُ: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَقَالَةَ الْأُخْرَى: "هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ"، لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ كِلَاهُمَا كَفَرَةٌ مُشْرِكُونَ، فَلِذَلِكَ رَجَعَ فِي الْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ إِلَى الْعُمُومِ، وَلَمْ يَقِلْ: "لَيَمَسَّنَّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ قِيلَ كَذَلِكَ، صَارَ الْوَعِيدُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ خَاصًّا لِقَائِلِ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَهُمُ الْقَائِلُونَ: "اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ"، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِمُ الْقَائِلُونَ: "المَسِيحُ هُوَ اللَّهُ ". فَعَمَّ بِالْوَعِيدِ تَعَالَى ذِكْرُهُ كُلَّ كَافِرٍ، لِيَعْلَمَ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ وَعِيدَ اللَّهِ قَدْ شَمِلَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَنْ كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى مَثَلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتَ، فَعَلَى مَنْ عَادَتْ "الهَاءُ وَالْمِيمُ" اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: "مِنْهُمْ"؟ قِيلَ: عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ، إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ هَؤُلَاءِ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ عَمَّا يَقُولُونَ فِي اللَّهِ مِنْ عَظِيمِ الْقَوْلِ، لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِنْهُمْ: "إِنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ "، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ: "إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ"، وَكُلٌّ كَافِرٌ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِنَحْوِ قَوْلِنَا، فِي أَنَّهُ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَاتِ النَّصَارَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} "، قَالَ: قَالَتِ النَّصَارَى: "هُوَ وَالْمَسِيحُ وَأُمُّهُ"، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 116]. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: " {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} "، نَحْوَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَلَا يَرْجِعُ هَذَانِ الْفَرِيقَانِ الْكَافِرَانِ الْقَائِلُ أَحَدُهُمَا: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ"، وَالْآخِرُ الْقَائِلُ: "إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ" عَمَّا قَالَا مِنْ ذَلِكَ، وَيَتُوبَانِ مِمَّا قَالَا وَنَطَقَا بِهِ مِنْ كُفْرِهِمَا، وَيَسْأَلَانِ رَبَّهُمَا الْمَغْفِرَةَ مِمَّا قَالَا "وَاللَّهُ غَفُورٌ"، لِذُنُوبِ التَّائِبِينَ مِنْ خَلْقِهِ، الْمُنِيبِينَ إِلَى طَاعَتِهِ بَعْدَ مَعْصِيَتِهِمْ"رَحِيمٌ" بِهِمْ، فِي قَبُولِهِ تَوْبَتَهُمْ وَمُرَاجَعَتَهُمْ إِلَى مَا يُحِبُّ مِمَّا يَكْرَهُ، فَيَصْفَحُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ عَمَّا سَلَفَ مِنْ إِجْرَامِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا [خَبَرٌ] مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، احْتِجَاجًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِرَقِ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ فِي الْمَسِيحِ. يَقُولُ مُكَذِّبًا لِلْيَعْقُوبِيَّةِ فِي قِيلِهِمْ: "هُوَ اللَّهُ " وَالْآخَرِينَ فِي قَيْلِهِمْ: "هُوَ ابْنُ اللَّهِ": لَيْسَ الْقَوْلُ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ فِي الْمَسِيحِ، وَلَكِنَّهُ ابْنُ مَرْيَمَ وَلَّدَتْهُ وِلَادَةَ الْأُمَّهَاتِ أَبْنَاءَهُنَّ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْبَشَرِ لَا مِنْ صِفَةِ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ رَسُولٌ كَسَائِرِ رُسُلِهِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ فَمَضَوْا وَخَلَوْا، أَجْرَى عَلَى يَدِهِ مَا شَاءَ أَنْ يُجْرِيَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، حُجَّةً لَهُ عَلَى صِدْقِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ إِلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا أَجْرَى عَلَى أَيْدِي مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، حُجَّةً لَهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ صِدْقِهِمْ فِي أَنَّهُمْ لِلَّهِ رُسُلٌ "وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ"، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَأُمُّ الْمَسِيحِ صِدِّيقَةٌ. وَ "الصِدِّيقَةُ" "الفِعِّيلَةُ"، مِنَ "الصِّدْقِ"، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: "فُلَانٌ صِدِّيقٌ"، "فِعِّيلٌ" مِنَ "الصِّدْقِ"، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ). [سُورَةُ النِّسَاءِ: 70]. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ" أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا قِيلَ لَهُ: "الصِّدِّيقُ" لِصِدْقِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ"صِدِّيقًا"، لِتَصْدِيقِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ مَكَّةَ، وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: "كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ"، خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ: أَنَّهُمَا كَانَا أَهْلَ حَاجَةٍ إِلَى مَا يَغْذُوهُمَا وَتَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمَا مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ كَسَائِرِ الْبَشَرِ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ كَائِنٍ إِلَهًا، لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَى الْغِذَاءِ قِوَامُهُ بِغَيْرِهِ. وَفِي قِوَامِهِ بِغَيْرِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى مَا يُقِيمُهُ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى عَجْزِهِ. وَالْعَاجِزُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَرْبُوبًا لَا رَبًّا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْظُرْ يَا مُحَمَّدُ، كَيْفَ نُبَيِّنُ لِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ مَنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى "الْآيَاتِ"، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ، وَالْأَعْلَامُ وَالْحُجَجُ عَلَى بُطُولِ مَا يَقُولُونَ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، وَفِي فِرْيَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَادِّعَائِهِمْ لَهُ وَلَدًا، وَشَهَادَتِهِمْ لِبَعْضِ خَلْقِهِ بِأَنَّهُ لَهُمْ رَبٌّ وَإِلَهٌ، ثُمَّ لَا يَرْتَدِعُونَ عَنْ كَذِبِهِمْ وَبَاطِلِ قِيلِهِمْ، وَلَا يَنْزَجِرُونَ عَنْ فِرْيَتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَعَظِيمِ جَهْلِهِمْ، مَعَ وُرُودِ الْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ عُذْرَهُمْ عَلَيْهِمْ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسُلَّمَ: "ثُمَّ انْظُرْ"، يَا مُحَمَّدُ "أَنَّى يُؤْفَكُونَ"، يَقُولُ: ثُمَّ انْظُرْ، مَعَ تَبْيِينِنَا لَهُمْ آيَاتِنَا عَلَى بُطُولِ قَوْلِهِمْ، أَيَّ وَجْهٍ يُصْرَفُونَ عَنْ بَيَانِنَا الَّذِي نُبَيِّنُهُ لَهُمْ؟ وَكَيْفَ عَنِ الْهُدَى الَّذِي نَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ يَضِلُّونَ؟ وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَصْرُوفٍ عَنْ شَيْءٍ: "هُوَ مَأْفُوكٌ عَنْهُ". يُقَالُ: "قَدْ أَفَكْتُ فُلَانًا عَنْ كَذَا"، أَيْ: صَرَفَتْهُ عَنْهُ، "فَأَنَا آفِكُهُ أَفْكًا، وَهُوَ مَأْفُوكٌ". و"قَدْ أُفِكَتِ الْأَرْضُ"، إِذَا صُرِفَ عَنْهَا الْمَطَرُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَيْضًا احْتِجَاجٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّصَارَى الْقَائِلِينَ فِي الْمَسِيحِ مَا وُصِفَ مِنْ قِيلِهِمْ فِيهِ قَبْلُ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُلْ"، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ مِنَ النَّصَارَى، الزَّاعِمِينَ أَنَّ الْمَسِيحَ رَبَّهُمْ، وَالْقَائِلِينَ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: أَتَعْبُدُونَ سِوَى اللَّهِ الَّذِي يَمْلِكُ ضَرَّكُمْ وَنَفْعَكُمْ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ، وَهُوَ يُحْيِيكُمْ وَيُمِيتُكُمْ شَيْئًا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا؟ يُخْبِرُهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ الْمَسِيحَ الَّذِي زَعَمَ مَنْ زَعَمَ مِنَ النَّصَارَى أَنَّهُ إِلَهٌ، وَالَّذِي زَعَمَ مَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ لِلَّهِ ابْنٌ، لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ إِنْ أَحَلَّهُ اللَّهُ بِهِمْ، وَلَا نَفْعًا يَجْلِبُهُ إِلَيْهِمْ إِنْ لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَهُمْ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكَيْفَ يَكُونُ رَبًّا وَإِلَهًا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ؟ بَلِ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ: الَّذِي بِيَدِهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَالْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. فَإِيَّاهُ فَاعْبُدُوا وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْعَجَزَةِ الَّذِينَ لَا يَنْفَعُونَكُمْ وَلَا يَضُرُّونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: "وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ"، لِاسْتِغْفَارِهِمْ لَوِ اسْتَغْفَرُوهُ مِنْ قِيلِهِمْ مَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ فِي الْمَسِيحِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنْطِقِهِمْ وَمَنْطِقِ خَلْقِهِ "العَلِيمُ"، بِتَوْبَتِهِمْ لَوْ تَابُوا مِنْهُ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّوَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "قُلْ"، يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْغَالِيَةِ مِنَ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ"، يَعْنِي بِـ "الكِتَابِ"، الْإِنْجِيلَ "لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ"، يَقُولُ: لَا تُفْرِطُوا فِي الْقَوْلِ فِيمَا تَدِينُونَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَسِيحِ، فَتُجَاوِزُوا فِيهِ الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ، فَتَقُولُوا فِيهِ: "هُوَ اللَّهُ "، أَوْ: "هُوَ ابْنُهُ"، وَلَكِنْ قُولُوا: "هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ"" {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} "، يَقُولُ: وَلَا تَتْبَعُوا أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ أَهْوَاءَ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَدْ ضَلُّوا قَبْلَكُمْ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى فِي الْقَوْلِ فِيهِ، فَتَقُولُونَ فِيهِ كَمَا قَالُوا: "هُوَ لِغَيْرِ رَشْدَةٍ"، وَتَبْهَتُوا أُمَّهُ كَمَا بَهَتُوهَا بِالْفِرْيَةِ وَهِيَ صِدِّيقَةٌ "وَأَضَلُّوا كَثِيرًا"، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَضَلَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، فَحَادُوا بِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَحَمَلُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْمَسِيحِ "وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ"، يَقُولُ: وَضَلَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ، وَرَكِبُوا غَيْرَ مَحَجَّةِ الْحَقِّ. وَإِنَّمَا يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ، كُفْرَهُمْ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبَهُمْ رُسُلَهُ: عِيسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَهَابَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَبُعْدَهُمْ مِنْهُ. وَذَلِكَ كَانَ ضَلَالُهُمُ الَّذِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} "، قَالَ: يَهُودُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {لَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} "، فَهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا أَتْبَاعَهُمْ"وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ"، عَنْ عَدْلِ السَّبِيلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْ لِهَؤُلَاءِ النَّصَارَى الَّذِينَ وَصَفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ صِفَتَهُمْ: لَا تَغْلُوا فَتَقُولُوا فِي الْمَسِيحِ غَيْرَ الْحَقِّ، وَلَا تَقُولُوا فِيهِ مَا قَالَتِ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَدْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. وَكَانَ لَعْنُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، كَالَّذِي:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} " قَالَ: لُعِنُوا بِكُلِّ لِسَانٍ: لُعِنُوا عَلَى عَهْدِ مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ، وَلُعِنُوا عَلَى عَهْدِ دَاوُدَ فِي الزَّبُورِ، وَلُعِنُوا عَلَى عَهْدِ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ، وَلُعِنُوا عَلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} "، يَقُولُ: لُعِنُوا فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَلُعِنُوا فِي الزَّبُورِ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} "، قَالَ: خَالَطُوهُمْ بَعْدَ النَّهْيِ فِي تِجَارَاتِهِمْ، فَضَرْبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَهُمْ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} "، قَالَ: لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ فَصَارُوا قِرَدَةً، وَلُعِنُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى فَصَارُوا خَنَازِيرَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} "، بِكُلِّ لِسَانٍ لُعِنُوا: عَلَى عَهْدِ مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ، وَعَلَى عَهْدِ دَاوُدَ فِي الزَّبُورِ، وَعَلَى عَهْدِ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ، وَلُعِنُوا عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ} "، عَلَى عَهْدِهِ، فَلُعِنُوا بِدَعْوَتِهِ. قَالَ: مَرَّ دَاوُدُ عَلَى نَفَرٍ مِنْهُمْ وَهُمْ فِي بَيْتٍ فَقَالَ: مَنْ فِي الْبَيْتِ؟ قَالُوا: خَنَازِيرُ. قَالَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ خَنَازِيرَ!" فَكَانُوا خَنَازِيرَ. قَالَ: ثُمَّ أَصَابَتْهُمْ لَعْنَتُهُ، وَدَعَا عَلَيْهِمْ عِيسَى فَقَالَ: "اللَّهُمَّ الْعَنْ مَنِ افْتَرَى عَلَيَّ وَعَلَى أُمِّي، وَاجْعَلْهُمْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ"! حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} " الْآيَةَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ فِي زَمَانِهِ، فَجَعَلَهُمْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ وَفِي الْإِنْجِيلِ عَلَى لِسَانِ عِيسَى، فَجَعَلَهُمْ خَنَازِيرَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مِحْصَنٍ حَصِينُ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ حَصِينٍ يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ} "، قَالَ: مُسِخُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ قِرَدَةً، وَعَلَى لِسَانِ عِيسَى خَنَازِيرَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا رَأَى أَخَاهُ عَلَى الذَّنْبِ نَهَاهُ عَنْهُ تَعْذِيرًا، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ لَمْ يَمْنَعْهُ مَا رَأَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَخَلِيطَهُ وَشَرِيبَهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ "ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ"، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الْمُسِيءِ، وَلَتُؤَطِّرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ.» حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سَلْمَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا فَشَا الْمُنْكَرُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، جَعَلَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّهَ! ثُمَّ لَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يُؤَاكِلَهُ وَيُشَارِبَهُ. فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ أَنْزَلَ فِيهِمْ كِتَابًا: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ وَقَالَ: كَلَّا وَالَذَى نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى تَأْطُرُوا الظَّالِمَ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا".» حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَذِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَظُنُّهُ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُمُ الْمُنْكَرُ، جَعَلَ الرَّجُلُ يَرَى أَخَاهُ وَجَارَهُ وَصَاحِبَهُ عَلَى الْمُنْكَرِ، فَيَنْهَاهُ، ثُمَّ لَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَنَدِيمَهُ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ "ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ"، إِلَى"فَاسِقُونَ"، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا، فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَغَضِبَ وَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا». حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ، «قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا وَقَعَ فِيهِمُ النَّقْصُ، كَانَ الرَّجُلُ يَرَى أَخَاهُ عَلَى الرَّيْبِ فَيَنْهَاهُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ، لَمْ يَمْنَعْهُ مَا رَأَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشِرِّيبَهُ وَخَلِيطَهُ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَنَزَلَ فِيهِمُ الْقُرْآنُ فَقَالَ: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} " حَتَّى بَلَغَ"وَلَكِنَّ كثيًرا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ"، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، وَقَالَ: لَا حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا». حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: أَمْلَاهُ عَلَيَّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ يَقُولُ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا فِي حَدِيثِهِمَا: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ قَالَ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا".» حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} "، قَالَ فَقَالَ: لُعِنُوا فِي الْإِنْجِيلِ وَفِي الزَّبُورِ وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رَحَى الْإِيمَانِ قَدْ دَارَتْ، فَدُورُوا مَعَ الْقُرْآنِ حَيْثُ دَارَ [*فَإِنَّهُ... قَدْ فَرَغَ اللَّهُ مِمَّا افْتَرَضَ فِيهِ]. [وَإِنَّ ابْنَ مَرِحٍ] كَانَ أُمَّةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا أَهْلَ عَدْلٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَأَخْذَهُ قَوْمُهُمْ فَنَشَرُوهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَصَلَبُوهُمْ عَلَى الْخَشَبِ، وَبَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، فَلَمْ يَرْضَوْا حَتَّى دَاخَلُوا الْمُلُوكَ وَجَالَسُوهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَرْضَوْا حَتَّى وَاكَلُوهُمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ تِلْكَ الْقُلُوبَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً. فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: " {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ} " إِلَى: "ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ"، مَاذَا كَانَتْ مَعْصِيَتُهُمْ؟ قَالَ: " {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ".» فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إذًا: لَعَنَ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْيَهُودِ بِاللَّهِ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَلُعِنَ وَاللَّهِ آبَاؤُهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، بِمَا عَصَوُا اللَّهَ فَخَالَفُوا أَمْرَهُ"وَكَانُوا يَعْتَدُونَ"، يَقُولُ: وَكَانُوا يَتَجَاوَزُونَ حُدُودَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَانَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ "لَا يَتَنَاهَوْنَ"، يَقُولُ: لَا يَنْتَهُونَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، وَلَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَيَعْنِي بِـ "المُنْكَرِ"، الْمَعَاصِي الَّتِي كَانُوا يَعْصُونَ اللَّهَ بِهَا. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: كَانُوا لَا يَنْتَهُونَ عَنْ مُنْكَرٍ أَتَوْهُ"لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ". وَهَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَقُولُ: أُقْسِمُ: لَبِئْسَ الْفِعْلُ كَانُوا يَفْعَلُونَ، فِي تَرْكِهِمُ الِانْتِهَاءَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَرُكُوبِ مَحَارِمِهِ، وَقَتْلِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: " {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}، لَا تَتَنَاهَى أَنْفُسُهُمْ بَعْدَ أَنْ وَقَعُوا فِي الْكُفْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوامَعْنَاهَا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "تَرَى"، يَا مُحَمَّدُ، كَثِيرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ"يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا"، يَقُولُ: يَتَوَلَّوْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَيُعَادُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ "لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ"، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أُقْسِمُ: لَبِئْسَ الشَّيْءُ الَّذِي قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَمَامَهُمْ إِلَى مَعَادِهِمْ فِي الْآخِرَةِ "أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ"، يَقُولُ: قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ سُخْطَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا فَعَلُوا. و"أَنْ" فِي قَوْلِهِ: "أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ"، فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، تَرْجَمَةً عَنْ "مَا"، الَّذِي فِي قَوْلِهِ: "لَبِئْسَ مَا". "وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ"، يَقُولُ: وَفِي عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"هُمْ خَالِدُونَ"، دَائِمٌ مُقَامُهُمْ وَمُكْثُهُمْ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَمَعْنَاهَا وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ"يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ"، يَقُولُ: يُصَدِّقُونَ اللَّهَ وَيُقِرُّونَ بِهِ وَيُوَحِّدُونَهُ، وَيُصَدِّقُونَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لِلَّهِ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، وَرَسُولٌ مُرْسَلٌ"وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ"، يَقُولُ: وَيُقِرُّونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ آيِ الْفَرْقَانِ "مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ"، يَقُولُ: مَا اتَّخَذُوهُمْ أَصْحَابًا وَأَنْصَارًا مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ "وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ"، يَقُولُ: وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ أَهْلُ خُرُوجٍ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ إِلَى مَعْصِيَتِهِ، وَأَهْلُ اسْتِحْلَالٍ لِمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: " {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} "، قَالَ: الْمُنَافِقُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواوَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتَجِدَنَّ، يَا مُحَمَّدُ، أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينِ صَدَّقُوكَ وَاتَّبَعُوكَ وَصَدَّقُوا بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ" الْيَهُودَ وَالَّذِينَ اشْرَكُوا "، يَعْنِي: عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأَوْثَانَ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا مَنْ دُونِ اللَّهِ"وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينِ آمَنُوا"، يَقُولُ: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً وَمَحَبَّةً. و"الْمَوَدَّةُ" "الْمَفْعَلَةُ"، مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ: "وَدِدْتُ كَذَا أَوَدُّهُ وُدًّا، وَوِدًّا، وَوَدًّا وَمَوَدَّةً "، إِذَا أَحْبَبْتَهُ. "لِلَّذِينِ آمَنُوا"، يَقُولُ: لِلَّذِينِ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} "، عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَالْإِذْعَانِ بِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ أَسْلَمُوا وَاتَّبَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ وَأَصْحَابٍ لَهُ أَسْلَمُوا مَعَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا خُصَيْفٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «بَعْثَ النَّجَاشِيُّ وَفْدًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: " {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} "، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فَأَخْبَرُوهُ، فَأَسْلَمَ النَّجَاشِيُّ، فَلَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا حَتَّى مَاتَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ، فَصَلُّوا عَلَيْهِ! فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَالنَّجَاشِيُّ ثَمَّ.» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} "، قَالَ: هُمُ الْوَفْدُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} "، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ خَافَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَبَعَثَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنَ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ، بَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي رَهْطٍ مِنْهُمْ، ذُكِرَ أَنَّهُمْ سَبَقُوا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَالُوا، إِنَّهُ خَرَجَ فِينَا رَجُلٌ سَفَّهَ عُقُولَ قُرَيْشٍ وَأَحْلَامَهَا، زَعَمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ! وَإِنَّهُ بَعَثَ إِلَيْكَ رَهْطًا لِيُفْسِدُوا عَلَيْكَ قَوْمَكَ، فَأَحْبَبْنَا أَنْ نَأْتِيَكَ وَنُخْبِرَكَ خَبَرَهُمْ. قَالَ: إِنْ جَاءُونِي نَظَرْتُ فِيمَا يَقُولُونَ! فَقَدِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمُّوا بَابَ النَّجَاشِيِّ، فَقَالُوا: اسْتَأْذِنْ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ! فَقَالَ، ائْذَنْ لَهُمْ، فَمَرْحَبًا بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ! فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ سَلَّمُوا، فَقَالَ لَهُ الرَّهْطُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: أَلَّا تَرَى أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنَّا صَدَقْنَاكَ؟ لَمْ يُحَيُّوكَ بِتَحِيَّتِكَ الَّتِي تُحَيَّا بِهَا! فَقَالَ لَهُمْ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُحَيُّونِي بِتَحِيَّتِي؟ فَقَالُوا: إِنَّا حَيَّيْنَاكَ بِتَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَتَحِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ! قَالَ لَهُمْ: مَا يَقُولُ صَاحِبُكُمْ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ؟ قَالَ يَقُولُ: " {هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} "، وَيَقُولُ فِي مَرْيَمَ: "إِنَّهَا الْعَذْرَاءُ الْبَتُولُ". قَالَ: فَأَخَذَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: مَا زَادَ عِيسَى وَأُمُّهُ عَلَى مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ قَدْرَ هَذَا الْعُودِ! فَكَرِهُ الْمُشْرِكُونَ قَوْلَهُ، وَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ. قَالَ لَهُمْ: هَلْ تَعْرِفُونَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اقْرَأُوا! فَقَرَأُوا، وَهُنَالِكَ مِنْهُمْ قِسِّيسُونَ وَرُهْبَانٌ وَسَائِرُ النَّصَارَى، فَعَرَفَتْ كُلَّ مَا قَرَأُوا وَانْحَدَرَتْ دُمُوعُهُمْ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} " الْآيَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} "، الْآيَةَ. قَالَ: بَعَثَ النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثَّنَى عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْحَبَشَةِ، سَبْعَةً قِسِّيسِينَ وَخَمْسَةً رُهْبَانًا، يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ. فَلَمَّا لَقُوهُ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَكَوْا وَآمَنُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِيهِمْ: " {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} "، فَآمَنُوا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَهَاجَرَ النَّجَاشِيُّ مَعَهُمْ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ عَطَاءٌ فِي قَوْلِهِ: " {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} " الْآيَةَ، هُمْ نَاسٌ مِنَ الْحَبَشَةِ آمَنُوا، إِذْ جَاءَتْهُمْ مُهَاجِرَةُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذِهِ صِفَةُ قَوْمٍ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنُوا بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا} "، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: "فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ " أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى، يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَنْتَهُونَ إِلَيْهِ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَدَّقُوا بِهِ وَآمَنُوا بِهِ، وَعَرَفُوا الَّذِي جَاءَ بِهِ أَنَّهُ الْحَقُّ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ مَا تَسْمَعُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ صِفَةَ قَوْمٍ قَالُوا: "إِنَّا نَصَارَى"، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِدُهُمْ أَقْرَبَ النَّاسِ وِدَادًا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يُسَمِّ لَنَا أَسْمَاءَهُمْ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدُ بِذَلِكَ أَصْحَابُ النَّجَاشِيِّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدُ بِهِ قَوْمٌ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ عِيسَى، فَأَدْرَكَهُمُ الْإِسْلَامُ فَأَسْلَمُوا لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَعَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَمْ يَسْتَكْبِرُوا عَنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: " {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} "، فَإِنَّهُ يَقُولُ: قَرُبَتْ مَوَدَّةُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهَ صِفَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا. وَ "القِسِّيسُونَ" جَمْعُ "قِسِّيسٍ". وَقَدْ يَجْمَعُ "الْقِسِّيسُ"، "قُسُوسًا"، لِأَنَّ "الْقَسَّ" و"الْقِسِّيسَ"، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِي "القِسِّيسِ" بِمَا:- حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "القِسِّيسُ"، عَبَّادُهُمْ. وَأَمَّا الرُّهْبَانُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ جَمْعًا، فَإِنَّ وَاحِدَهُمْ يَكُونُ"رَاهِبًا"، وَيَكُونُ "الرَّاهِبُ"، حِينَئِذٍ "فَاعِلًا" مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "رَهِبَ اللَّهَ فُلَانٌ"، بِمَعْنَى خَافَهُ، "يَرْهَبُهُ رَهَبًا وَرَهْبًا"، ثُمَّ يُجْمَعُ "الرَّاهِبُ"، "رُهْبَانٌ" مِثْلَ"رَاكِبٍ" وَ"رُكْبَانٍ"، وَ"فَارِسٍ" وَ"فُرْسَانٍ". وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْعَرَبِ جَمْعًا قَوْلُ الشَّاعِرِ: رُهْبَـانُ مَـدْيَنَ لَـوْ رَأَوْكَ تَـنَزَّلُوا *** والْعُصْـمُ مِـنْ شَـعَفِ الْعَقُـولِ الْفَادِرِ وَقَدْ يَكُونُ "الرُّهْبَانُ" وَاحِدًا. وَإِذَا كَانَ وَاحِدًا كَانَ جَمْعُهُ"رَهَابِينَ" مِثْلَ "قُرْبَانٍ" وَ"قَرَابِينَ"، وَ"جُرْدَانٍ". وَ"جَرَادِينَ". وَيَجُوزُ جَمْعُهُ أَيْضًا"رَهَابِنَةُ" إِذَا كَانَ كَذَلِكَ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَاحِدًا قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَـوْ عَـايَنَتْ رُهْبَـانَ دَيْـرٍ فـي الْقُلَلْ *** لَانْحَـدَرَ الرُّهْبَـانُ يَمْشِـي وَنَزَلْ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِقَوْلِهِ: "ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ كَانُوا اسْتَجَابُوا لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ حِينَ دَعَاهُمْ، وَاتَّبَعُوهُ عَلَى شَرِيعَتِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: " {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} "، قَالَ: كَانُوا نَوَاتِيَّ فِي الْبَحْرِ يَعْنِي: مَلَّاحِينَ قَالَ: فَمَرَّ بِهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَجَابُوهُ: قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ، الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانَ النَّجَاشِيُّ بَعَثَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: " {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} "، قَالَ: سِتَّةٌ وَسِتُّونَ، أَوْ سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ، أَوْ ثَمَانٍ وَسِتُّونَ مِنَ الْحَبَشَةِ، كُلُّهُمْ صَاحِبُ صَوْمَعَةٍ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} "، قَالَ: بَعَثَ النَّجَاشِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسِينَ أَوْ سَبْعِينَ مِنْ خِيَارِهِمْ، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَقَالَ: هُمْ هَؤُلَاءِ ! حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} "، قَالَ: هُمْ رُسُلُ النَّجَاشِيِّ الَّذِينَ أَرْسَلَ بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ قَوْمِهِ، كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا اخْتَارَهُمُ الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ، فَدَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [سُورَةُ يس: 1، 2]، فَبَكَوْا وَعَرَفُوا الْحَقَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: " {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} "، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [سُورَةُ الْقَصَصِ: 53، ]. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنِ النَّفَرِ الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمْ مِنَ النَّصَارَى بِقِرَبِ مَوَدَّتِهِمْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْهُمْ لِأَنَّ مِنْهُمْ أَهْلَ اجْتِهَادٍ فِي الْعِبَادَةِ، وَتَرَهُّبٍ فِي الدِّيَارَاتِ وَالصَّوَامِعِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ عُلَمَاءَ بِكُتُبِهِمْ وَأَهْلَ تِلَاوَةٍ لَهَا، فَهُمْ لَا يَبْعُدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِتَوَاضُعِهِمْ لِلْحَقِّ إِذَا عَرَفُوهُ، وَلَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ قَبُولِهِ إِذَا تَبَيَّنُوهُ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ دِينٍ وَاجْتِهَادٍ فِيهِ، وَنَصِيحَةٍ لِأَنْفُسِهِمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَلَيْسُوا كَالْيَهُودِ الَّذِينَ قَدْ دَرِبُوا بِقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَمُعَانِدَةِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَتَحْرِيفِ تَنْزِيلِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كُتُبِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِمِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا سَمِعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: "إِنَّا نَصَارَى" الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ، يَا مُحَمَّدُ، صِفَتَهُمْ أَنَّكَ تَجِدُهُمْ أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلَّذِينِ آمَنُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ يُتْلَى"تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ". وَ"فَيْضُ الْعَيْنِ مِنَ الدَّمْعِ"، امْتِلَاؤُهَا مِنْهُ، ثُمَّ سَيَلَانُهُ مِنْهَا، كَفَيْضِ النَّهْرِ مِنَ الْمَاءِ، وَفَيْضِ الْإِنَاءِ، وَذَلِكَ سَيَلَانُهُ عَنْ شِدَّةِ امْتِلَائِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: ففَـاضَتْ دُمُـوعِي، فَظَـلَّ الشُّـئُونُ: *** إمَّـا وَكِيفًـا، وَإِمَّـا انْحِـدَارَا وَقَوْلُهُ: "مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ"، يَقُولُ: فَيْضُ دُمُوعِهِمْ، لِمَعْرِفَتِهِمْ بِأَنَّ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ حَقٌّ، كَمَا:- حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: بَعَثَ النَّجَاشِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثَّنَى عَشَرَ رَجُلًا يَسْأَلُونَهُ وَيَأْتُونَهُ بِخَبَرِهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَبَكَوْا. وَكَانَ مِنْهُمْ سَبْعَةُ رُهْبَانٍ وَخَمْسَةُ قِسِّيسِينَ أَوْ: خَمْسَةُ رُهْبَانٍ، وَسَبْعَةُ قِسِّيسِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: " {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} "، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُقَدَّمٍ قَالَ، سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ: " {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} ". حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: " {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} "، قَالَ: ذَلِكَ فِي النَّجَاشِيِّ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانُوا يُرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُنْزِلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ: " {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} ". حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنِ الْآيَاتِ: " {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} " الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [سُورَةُ الْفُرْقَانِ: 63]. قَالَ: مَا زِلْتُ أَسْمَعُ عُلَمَاءَنَا يَقُولُونَ: نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "يَقُولُونَ"، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ بِلَفْظِ اسْمٍ، كَانَ نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، لَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، قَائِلِينَ: "رَبَّنَا آمَنَّا". وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا"، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا، صَدَّقْنَا لَمَّا سَمِعْنَا مَا أَنْزَلْتَهُ إِلَى نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كِتَابِكَ، وَأَقْرَرْنَا بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِكَ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ. وَأُمًّا قَوْلُهُ: "فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي تَأْوِيلِهِ، مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادٌ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي وَابْنُ نُمَيْرٍ جَمِيعًا، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: " اكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"، قَالَ: أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: "فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"، مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"، يَعْنُونَ بِـ "الشَّاهِدِينَ"، مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: " {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} "، قَالَ: مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ، إِنَّهُمْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَشَهِدُوا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْ. حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ، حَدَّثَنِي إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَشَهِدُوا لِلرُّسُلِ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَأَنَّ مُتَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلِ، قَصَدَ بِتَأْوِيلِهِ هَذَا إِلَى مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 143]. فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ "الشَّاهِدِينَ"، هُمُ "الشُّهَدَاءُ" فِي قَوْلِهِ: " {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} "، وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ ذَلِكَ، كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: " {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} "، الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِأَنْبِيَائِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنَّهُمْ قَدْ بَلَّغُوا أُمَمَهُمْ رِسَالَاتِكَ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَعْنَى ذَلِكَ: "فَاكْتُبْتَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"، الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ مَا أَنْزَلْتَهُ إِلَى رَسُولِكَ مِنَ الْكُتُبِ حَقٌّ كَانَ صَوَابًا. لِأَنَّ ذَلِكَ خَاتِمَةُ قَوْلِهِ: " {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمِنًا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} "، وَذَلِكَ صِفَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ بِإِيمَانِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَتَكُونُ مَسْأَلَتُهُمْ أَيْضًا اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مِمَّنْ صَحَّتْ عِنْدَهُ شَهَادَتُهُمْ بِذَلِكَ، وَيُلْحِقُهُمْ فِي الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ مَنَازِلَهُمْ. وَمَعْنَى "الكِتَابِ، " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْجَعْلُ. يَقُولُ: فَاجْعَلْنَا مَعَ الشَّاهِدَيْنِ، وَأَثْبِتْنَا مَعَهُمْ فِي عِدَادِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّوَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كِتَابِهِ، آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَقَالُوا: "مَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ"، يَقُولُ: لَا نُقِرُّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ"وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ"، يَقُولُ: وَمَا جَاءَنَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ كِتَابِهِ وَآيِ تَنْزِيلِهِ، وَنَحْنُ نَطْمَعُ بِإِيمَانِنَا بِذَلِكَ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. يَعْنِي بِـ "القَوْمِ الصَّالِحِينَ"، الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، الْمُطِيعِينَ لَهُ، الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا مِنَ اللَّهِ الْجَنَّةَ بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: وَنَحْنُ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ أَهْلِ طَاعَتِهِ مَدَاخِلَهُمْ مِنْ جَنَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُلْحِقَ مَنَازِلَنَا بِمَنَازِلِهِمْ، وَدَرَجَاتِنَا بِدَرَجَاتِهِمْ فِي جَنَّاتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} "، قَالَ: "القَوْمُ الصَّالِحُونَ"، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُخَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَجَزَاهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِمْ: " {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ}. "جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ"، يَعْنِي: بَسَاتِينَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ"خَالِدِينَ فِيهَا"، يَقُولُ: دَائِمًا فِيهَا مُكْثُهُمْ، لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَلَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا " {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} "، يَقُولُ: وَهَذَا الَّذِي جَزَيْتُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِمَا وَصَفْتُ عَنْهُمْ مِنْ قَيْلِهِمْ عَلَى مَا قَالُوا، مِنَ الْجَنَّاتِ الَّتِي هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، جَزَاءُ كُلِّ مُحْسِنٍ فِي قِيلِهِ وَفِعْلِهِ. و"إِحْسَانُ الْمُحْسِنِ" فِي ذَلِكَ، أَنْ يُوَحِّدَ اللَّهَ تَوْحِيدًا خَالِصًا مَحْضًا لَا شِرْكَ فِيهِ، وَيُقِرَّ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنَ الْكُتُبِ، وَيُؤَدِّيَ فَرَائِضَهُ، وَيَجْتَنِبَ مَعَاصِيَهُ. فَذَلِكَ كَمَالُ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَمَّا الَّذِينَ جَحَدُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ، وَأَنْكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِ كِتَابِهِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ" أَصْحَابُ الْجَحِيمِ". يَقُولُ: هُمْ سُكَّانُهَا وَاللَّابِثُونَ فِيهَا. وَ "الجَحِيمُ": مَا اشْتَدَّ حَرُّهُ مِنَ النَّارِ، وَهُوَ "الجَاحِمُ""وَالْجَحِيمُ".
|